فصل: تفسير الآيات رقم (24- 34)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


سورة الطور

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏وَالطُّورِ ‏(‏1‏)‏ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ‏(‏2‏)‏ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ‏(‏3‏)‏ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِى رَقِّ مَّنشُورٍ‏}‏‏.‏

أقسم الله بهذه الأشياء ‏(‏التي في مطلع السورة‏)‏، وجواب القَسَم قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ‏}‏‏.‏ والظورُ هو الجبلُ الذي كُلِّم عليه موسى عليه السلام؛ لأنه مَحَلُّ قَدَم الأحباب وقتَ سماع الخطاب‏.‏ ولأنه الموضعُ الذي سَمِعَ فيه موسى ذِكْرَمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وذِكْرَ أُمَّته حتى نادانا ونحن في أصلاب آبائنا فقال‏:‏ أعطيتكم قبل أن تَسألوني ‏{‏وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ‏}‏ مكتوب في المصاحف، وفي اللوح المحفوظ‏.‏

وقيل‏:‏ كتاب الملائكة في السماء يقرؤون منه ما كان وما يكون‏.‏

ويقال‏:‏ ما كتب على نفسه من الرحمة لعباده‏.‏

ويقال ما كتب من قوله‏:‏ «سبقت رحمتي غضبي»‏.‏

ويقال‏:‏ هو قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 105‏]‏‏.‏

ويقال‏:‏ الكتاب المسطور فيه أعمال العباد يُعْطَى لعباده بأَيْمانهم وشمائلهم يوم القيامة‏.‏ ‏{‏فِى رَقٍّ مَّنشُورٍ‏}‏ يرجع إلى ما ذكرنا من الكتاب‏.‏

‏{‏وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ‏}‏‏.‏

في السماء الرابعة ويقال‏:‏ هو قلوب العبادين العارفين المعمورة بمحبته ومعرفته‏.‏ ويقال‏:‏ هي مواضع عبادتهم ومجالس خلواتهم‏.‏ وقيل‏:‏ الكعبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 18‏]‏

‏{‏وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ‏(‏5‏)‏ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ‏(‏7‏)‏ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ‏(‏8‏)‏ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ‏(‏9‏)‏ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ‏(‏10‏)‏ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏11‏)‏ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ‏(‏12‏)‏ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ‏(‏13‏)‏ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ‏(‏14‏)‏ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ ‏(‏15‏)‏ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ‏(‏17‏)‏ فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وَالسَّقْفِ المَرْفُوعِ‏}‏‏.‏

هي السماء‏.‏ وقيل سماء هِمَمِهم في الملكوت‏.‏

‏{‏وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ‏}‏‏.‏

البحار المملوءة‏.‏

أقسم بهذه الأشياء‏:‏ ‏{‏إنَّ عذابَه لواقع‏}‏ وعذابُه في الظاهر ما توعَّدَ به عبادَه العاصين، وفي الباطن الحجابُ بعد الحضور، والسترُ بعد الكشف، والردُّ بعد القبول‏.‏

‏{‏مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ‏}‏‏.‏

إذا رَدَّ عَبْداً أَبرمَ القضاءَ بردِّه‏:‏

إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكن *** إليه بوجه آخَر- الدهر- تُقْبِلُ

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَومَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً‏}‏‏.‏

‏{‏تَمُورُ‏}‏‏:‏ أي تدور بما فيها، وتسير الجبالُ عن أماكنها، فتسير سيراً‏.‏

‏{‏فَوَيْلٌ يَوْمئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ‏}‏‏.‏

الويلُ كلمة تقولها العرب لمن وقع في الهلاك‏.‏

‏{‏فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ‏}‏‏:‏ في باطل التكذيب يخوضون‏.‏

‏{‏يَوْمَ يُدَعُّونَ إلَى نَارٍ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَآ أَمْ أَنتُمْ لا َتُبْصِرُونَ‏}‏‏.‏

يومَ يُدْفَعون إلى النارِ دَفْعاً، ويقال لهم‏:‏ هذه هي النار التي كنتم بها تُكذِّبون‏.‏‏.‏‏.‏

ثم يسألون‏:‏ أهذا من قبيل السحر على ما قلتم أم غُطِّيَ على أبصاركم‏؟‏‏!‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏اصْلُوْهَا فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

والصبرُ على الجزاء في العاقبة لا قيمة له، لأنَّ عذابَهم عقوبةٌ لهم‏:‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ‏}‏‏.‏

المتقون في جنات ونعيم عاجلاً وآجلاً‏.‏ ‏{‏فَاكِهِينَ‏}‏ أي مُْعْجَبِين بما آتاهم ربهم وما أعطاهم‏.‏

ويقالك فاكهون‏:‏ أي ذوو فاكهة‏:‏ كقولهم رجل تامر أي ذو تمر، ولابنٌ أي ذو لَبن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 23‏]‏

‏{‏كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ‏(‏20‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ‏(‏21‏)‏ وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ‏(‏22‏)‏ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

قوم يصير لهم ذلك هنيئاً بطَعْمِه ولَذَّتِه، وقومٌ يصير هنيئاً لهم سماعُ قولهم عنه- سبحانه- هنيئاً، وقوم يصير لهم ذلك هيناَ ليِّناً وهم بمشهد منه‏:‏

فاشرب على وجهها كَغُرَّتِها *** مُدامةً في الكؤوس كالشَّررِ

‏{‏مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ‏}‏‏.‏

يظلَّون في سرور وحبور، ونصيب من الأنْس موفور‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ‏}‏‏.‏

يُكْملُ عليهم سرورهم بأَنْ يُلْحِق بهم ذُرِّياتِهم؛ فإنَّ الانفرادَ بالنعمة عَمَّنْ القلبُ مشتغِلٌ به من الأهل والولد الذرية يوجِب تَنَغص العيش‏.‏

وكذلك كلُّ مْن قلبُ الوليِّ يلاحِظه من صديق وقريب، ووليٍّ وخادم، قال تعالى في قصة يوسف‏:‏ ‏{‏وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 93‏]‏‏.‏

وفي هذا المعنى قالوا‏:‏

إنيِّ على جفواتها- فبربِّها *** وبكلِّ مُتَّصلٍ بها متوسِّلِ

لأحُّبها، وأُحِبُّ منزلَها الذي *** نزلت به وأحب أهل المنزِل

‏{‏وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَئ كُلُّ امْرِئ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ‏}‏‏.‏

أي ما أنقصنا من أجورهم من شيءٍ بل وفينا ووفَرنا‏.‏ وفي الابتداء نحن أَوْليْنا وزدنا على ما أعطينا‏.‏

‏{‏كُلُّ امْرِى بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ‏}‏ مُطَالَبٌ بعمله، يوفىَّ عليه أَجره بلا تأخير، وإنْ كان ذنباً فالكثيرُ منه مغفور، كما أنه اليوم مستور‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهونَ يَتَنَازَعُونَ فِيهَ كَأْساً لاَ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ‏}‏‏.‏

أي لا يجري بينهم باطلٌ ولا يؤثمهم كما يجري بين الشَّربِ في لدنيا، ولا يَذْهبُ الشُّرْبُ بعقولهم فيجري بينهم ما يُخْرِِجهم عن حَدِّ الأدبِ والاستقامة‏.‏

وكيف لا يكون مجلسهم بهذه الصفة ومِن المعلوم من يسقيهم، وهم بمشهد منه وعلى رؤية منه‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 34‏]‏

‏{‏وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ‏(‏24‏)‏ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏25‏)‏ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ‏(‏26‏)‏ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ‏(‏27‏)‏ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ‏(‏28‏)‏ فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ ‏(‏29‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ‏(‏30‏)‏ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ‏(‏31‏)‏ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ‏(‏32‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏33‏)‏ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ‏}‏‏.‏

والقومُ عن الدارِ وعمَّن في الدار مُخْتَطَفون لاستيلاء ما يستغرقهم؛ فالشرابُ يؤنِسُهم ولكن لا بِمَنْ يجانسهم؛ وإذا كان- اليومَ- للعبد وهو في السجن في طول عمره ساعة ُ امتناع عن سماع خطاب الأغيار، وشهود واحدٍ من المخلوقين- وإنْ كان ولداً عزيزاً، أو أخاً شفيقاً- فمِنَ المحال أنْ يُظَنْ أنه يُرَدُّ من الأعلى إلى الأدنى‏.‏‏.‏ إِنْ كان من اهل القبول والجنة، ومن المحال أن يظن أنه يكون غداً موسوماً بالشقاوة‏.‏

وإذا كان العبدُ في الدنيا يقاسي في غُرْبتَه من مُقاصاة اللتيا والتي- فماذا يجب أن يقال إذا رجع إلى منزله‏؟‏ أيبقى على ما كان عليه في سفرته‏؟‏ أم يلقى غير ما كان يقاسي في سَفْرته، ويتجرع غير ما كان يُسْقى من كاسات كُرْبته‏؟‏

قوله جلّ ذكره ‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومٍ‏}‏‏.‏

لولا أَنهم قالوا‏:‏ ‏{‏فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا‏}‏ لكانوا قد لاحظوا إشفاقَهم، ولكن الحقّ- سبحانه- اختطفهم عن شُهود إِشفاقهم؛ حيث أَشهدهم مِنَّتَه عليهم حتى قالوا‏:‏ ‏{‏فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ‏}‏ ‏{‏إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بَكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ‏}‏‏.‏

أي أنهم يعلمون أَنَّكَ ليست بك كَهَانةٌ ولا جُنونٌ، وإنما قالوا ذلك على جهة التسفيه؛ فالسّفيهُ يبسط لسانُه فيمن يَسُبُّه بما يعلم أنه منه بريء‏.‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُواْ فَِإنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ‏}‏‏.‏

نتربص به حوادث الأيام؛ فإنّ مِثْل هذا لا يدوم، وسيموت كما مات مِنْ قبْله كُهّانٌ وشعراء‏.‏

ويقال‏:‏ قالوا‏:‏ إنَّ أباه مات شابّاً، ورَجَوْا أَنْ يموت كما مات أبوه، فقال تعالى‏:‏

‏{‏قُل تَرَبَّصُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ فإننا منتظرون، وجاء في التفسير أَنّ جميعَهم ماتوا‏.‏ فلا ينبغي لأحدٍ أن يُؤمِّلَ موتَ أحدٍ‏.‏ فَقَلْ مَن تكون هذه صَنعتُه إلاّ سَبَقَتْه المَنيَّةُ- دون أَنْ يُدْرِكَ ما يتمنّاه مِنْ الأمنيّة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُم بِهَذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ‏}‏‏.‏

أتأمرهم عقولهم بهذا‏؟‏ أَم تحملهم مجَاوزة الحدّ في ضلالهم وطغيانهم عَلَى هذا‏؟‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاٍَّ يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ‏}‏‏.‏

إذا كانوا يزعمون أنك تقول هذا القول من ذاتِ نَفْسك فليأتوا بحديثٍ مثلِه إنْ كانوا صادقين فيما رَمَوْك به‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

كلاَ ليس الامرُ كذلك، بل اللَّهُ هو الخالق وهم المخلوقون‏.‏

أم هم الذين خلقوا السمواتِ والأرضَ‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 49‏]‏

‏{‏أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ ‏(‏37‏)‏ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ‏(‏39‏)‏ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ‏(‏40‏)‏ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏41‏)‏ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ‏(‏42‏)‏ أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏43‏)‏ وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ‏(‏44‏)‏ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ‏(‏45‏)‏ يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏46‏)‏ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏47‏)‏ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ‏(‏48‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ‏}‏‏.‏

-أي خزائن أرزاقه ومقدوراته‏؟‏ ‏{‏أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرونَ‏}‏ المُتَسلِّطون عَلَى الناس‏؟‏

أم لهم سُلّمٌ يرتقون فيه فيستمعون ما يجري في السموات‏؟‏ ‏{‏فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ‏}‏ ثم إنه سفّهَ أحلامهم فقال‏:‏

‏{‏أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ‏}‏‏.‏

أم تسألهم عَلَى تبليغ الرسالة أجراً هلم مثقلون من الغُرم والإلزام في المال ‏(‏بحيث يزهدهم ذلك في اتباعك‏؟‏‏)‏‏.‏

‏{‏أَمْ عِنَدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ‏}‏ ذلك‏؟‏

‏{‏أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً‏}‏ أي أن يمكروا بك مكراً ‏{‏فَالَّذِينَ كَفرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ‏}‏ يفعل شيئاً مما يفعل الله‏؟‏ تنزيهاً له عن ذلك‏!‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ‏}‏‏.‏

أي إِنْ رأوْا قطعةً من السماء ساقطةً عليهم قالوا‏:‏ إنه سحابٌ مركوم رُكم بعضه عَلَى بعض والمقصود أنهم مهما رَأَوْ من الآيات لا يُؤمِنون‏.‏ ولو فتحنا عليهم باباً من السماء حتى شاهدوا بالعين لقالوا‏:‏ إنما سُكرَتْ أبصارنا، وليس هذا عياناً ولا مشاهدةً‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاَ قُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ‏}‏‏.‏

أي فأعرضْ عنهم حتى يُلاقوا يومَهم الذي فيه يموتون، يوم لا يُغْني عنهم كيدُهم شيئاً، ولا يُمْنَعون من عذابنا‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَالِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

دونَ يوم القيامة لهم عذابُ القَتْلِ والسّبْيِ، وما نَزَلَ بهم من الهوان والخزي يوم بدر وغيره‏.‏

‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏‏:‏ أَنَّ اللَّهَ ناصرٌ لدينه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏}‏‏.‏

أنت بمرأىً مِنَّا، وفي نصرةٍ منَّا‏.‏

‏{‏فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏}‏‏:‏ في هذا تخفيفٌ عليه وهو يقاسي الصبر‏.‏

‏{‏وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ‏}‏

أي تقوم للصلاةِ المفروضةِ عليك‏.‏

‏{‏وَمِنَ الَّيْلِ فِسَبِّحهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ‏}‏‏.‏

قيل‏:‏ المغرب والعشاء وركعتا الفجر‏.‏

وفي الآية دليل وإشارة إلى أنه أَمَرَه أَنْ يَذْكُرَه في كلَّ وقت، وألا يخلوَ وقتٌ من ذِكْره‏.‏

والصبرُ لحُكمِ اللَّهِ شديدٌ، ولكن إذا عَرَفَ اطلاعَ الربِّ عليه سَهُلَ عليه ذلك وهان‏.‏

سورة النجم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ‏(‏1‏)‏ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ‏(‏2‏)‏ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ‏(‏3‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى‏}‏‏.‏

والثريا إذا سقط وغرب‏.‏ ويقال‏:‏ هو جِنْسُ النجوم أقسم بها‏.‏

ويقال‏:‏ هي الكواكب‏.‏ ويقال‏:‏ أقسم بنجوم القرآن عَلَى النبي صلى الله عيله وسلم ويقال هي الكواكب التي تُرمَى بها الشياطين‏.‏

ويقال أقسم بالنبي صلى الله عليه وسلم عند مُنَصَرفهِ من المعراج‏.‏

ويقال‏:‏ أقسم بضياء قلوب العارفين ونجوم عقولِ الطالبين‏.‏

وجوابُ القسَم قوله‏:‏ ‏{‏مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى‏}‏‏:‏ أي ما ضَلَّ عن التوحيد قط، ‏{‏وَمَا غَوَى‏}‏‏:‏ الغَيُّ‏:‏ نقيضُ الرُّشد‏.‏‏.‏ وفي هذا تخصيصٌ للنبي صلى الله عليه وسلم حيث تولّى- سبحانه- الذّبَ عنه فيما رُميَ به، بخلاف ما قال لنوح عليه السلام وأذِنَ له حتى قال‏:‏ ‏{‏لَيْسَ بِى ضَلاَلَةٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 61‏]‏، وهود قال‏:‏ ‏{‏لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 67‏]‏‏.‏ وغير ذلك، وموسى قال لفرعون‏:‏ ‏{‏وَإِنِّى لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 102‏]‏‏.‏ وقال لنبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى‏}‏‏:‏ معناه ما ضلَّ صاحبُكم، ولا غَفَل عن الشهود طَرْفَةَ عينٍ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَا ينطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى‏}‏‏.‏

أي ما ينطق بالهوى، وما هذا القرآنُ إلا وحيٌ يُوحَى‏.‏ وفي هذا أيضاً تخصيصٌ له بالشهادة؛ إذ قال لداود‏:‏ ‏{‏فَاحْكُم بَيْنَ النَّاس بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وقال في صفة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى‏}‏‏.‏

‏{‏ومتى ينطق عن الهوى‏}‏ وهو في محل النجوى‏؟‏ في الظاهر مزمومٌ بزمام التقوى، وفي السرائر في إيواء المولى، مُصَفَّى عن كدورات البشرية، مُرَقَّى إلى شهود الأَحَدِية، مُكاشَفٌ بجلالِ الصمدية، مُخْتَطفٌ عنه بالكُلِّيَّة، لم تبقَ منه إلا للحقِّ بالحقِّ بقية *** ومَنْ كان بهذا النعت *** متى ينطق عن الهوى‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 11‏]‏

‏{‏عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ‏(‏5‏)‏ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ‏(‏6‏)‏ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ‏(‏8‏)‏ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ‏(‏9‏)‏ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ‏(‏10‏)‏ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى‏}‏‏.‏

أي جبريل عليه السلام‏.‏ و‏{‏ذُو مِرَّةٍ‏}‏‏:‏ أي ذو قوة وهو جبريل‏.‏ ‏{‏وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى‏}‏ أي جبريل‏.‏

‏{‏ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى‏}‏‏.‏

دنا جبريلُ من محمدٍ عليه السلام‏.‏ فتدلَّى جبريلُ‏:‏ أي نَزَلَ من العُلُوِّ إلى محمد‏.‏

وقيل‏:‏ «تدلَّى» تفيد الزيادةَ في القُرْب، وأَنَّ محمداً عليه السلام هو الذي دنا من ربِّه دُنُوَّ كرامة، وأَنَّ التدلِّى هنا معناها السجود‏.‏

ويقال‏:‏ دنا محمدٌ من ربِّه بما أُودِعَ من لطائفِ المعرفة وزوائِدها، فتدلَّى بسكون قلبه إلى ما أدناه‏.‏

‏{‏فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى‏}‏‏:‏ فكان جبريل- وهو في صورته التي هو عليها- من محمد صلى الله عليه وسلم بحيث كان بينهما قَدْرُ قوسين أو أدنى‏.‏

ويقال‏:‏ كان بينه- صلى الله عليه وسلم- وبين الله قَدْر قوسين‏:‏ أراد به دُنُوَّ كرامة لا دُنُوَّ مسافة‏.‏

ويقال‏:‏ كان من عادتهم إذا أرادوا تحقيقَ الأُلْفَةِ بينهم إِلصاقُ أحدِهم قوسَه بقوس صاحبه عبارةً عن عقد الموالاة بينهما، وأنزل اللَّهُ- سبحانه- هذا الخطابَ على مقتضى معهودهم‏.‏ ثم رفع اللَّهُ هذا فقال‏:‏ ‏{‏أَوْ أَدْنَى‏}‏ أي بل أدنى‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى‏}‏‏.‏

أي أَوحى اللَّهُ إلى محمدٍ ما أوحى‏.‏ ويقال‏:‏ أَحْمَلَه أحْمَالاً لم يَطَّلِعْ عليها أحدٌ‏.‏

ويقال‏:‏ قال له‏:‏ ألم أجدك يتيماً فآويتُك‏؟‏ ألم أجدك ضالاًّ فَهديتُك‏؟‏

أَلم أجدك عائلاً فأغنيتك‏؟‏ أَلم أِشرح لك صدرك‏؟‏

ويقال‏:‏ بَشَّرَه بالحوض والكوثر‏.‏

ويقال‏:‏ أوحى إليه أَنَّ الجنَّةَ مُحَرَّمةٌ عَلَى الأنبياءِ حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أُمتَّك‏.‏ والأَوْلَى أَن يقال‏:‏ هذا الذي قالوه كله حَسَنٌ، وغيره مما لم يَطَّلِعْ أحدٌ *** كله أيضاً كان له في تلك الليلة وحدَه؛ إذ رقَّاه إلى ما رقَّاه، ولقَّاه بما لقَّاه، وأدناه حيث لا دنوَّ قبله ولا بعده، وأخذه عنه حيث لا غيرٌ، وأصحاه له في عين ما محاه عنه، وقال له ما قال *** دون أن يَطَّلِعَ أحدٌ على ما كا بينهما من السِِّّرِّ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى‏}‏‏.‏

ما كذَّبَ فؤادُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره من الآيات‏.‏ وكذلك يقال‏:‏ رأى ربَّه تلك الليلة على الوصف الذي عَلِمَه قبل أن يراه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 22‏]‏

‏{‏أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ‏(‏12‏)‏ وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى ‏(‏13‏)‏ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ‏(‏14‏)‏ عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ‏(‏15‏)‏ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ‏(‏16‏)‏ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ‏(‏17‏)‏ لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ‏(‏18‏)‏ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ‏(‏19‏)‏ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ‏(‏20‏)‏ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى ‏(‏21‏)‏ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى‏}‏

أفتجادلونه على ما يرى‏؟‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ المْنُتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى‏}‏‏.‏

أي جبريلُ رأى اللَّهَ مرةً أخرى حين كان محمدٌ عند سدرة المنتهى؛ وهي شجرة في الجنة، وهي منتهى الملائكة، وقيل‏:‏ تنتهي إليها أرواحُ الشهداء‏.‏ ويقال‏:‏ تنتهي إليها أرواحُ الخَلْقِ، ولا يَعْلم ما وراءها إلا الله تعالى- وعنداها ‏{‏جَنَّةُ الْمَأْوَى‏}‏ وهي جنة من الجِنان‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى‏}‏‏.‏

يغشاها ما يغشاها من الملائكة ما الله أعلمُ به‏.‏

وفي خبر‏:‏ «يغشاها رفرف طير خُضْرٍ»‏.‏

ويقال‏:‏ يغشاها فَرَاشٌ من ذَهَبٍ‏.‏

ويقال‏:‏ أُعْطِيَ رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ عندها خواتيم البقرة‏.‏ وغُفِرَ لمن مات من أُمَّتِه لا يشرك بالله شيئاً‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى‏}‏‏.‏

ما مَالَ- صلوات الله عليه وسلامه- ببصره عمَّا أُبيح له من النظر إلى الآيات، والاعتبارِ بدلائلها‏.‏

فما جَاوَزَ حَدَّه، بل رَاعَى شروطَ الأدبِ في الحَضْرة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى‏}‏‏.‏

أي «الآية» الكبرى، وحَذَفَ الآية *** وهي تلك التي رآها في هذه الليلة‏.‏ ويقال‏:‏ هي بقاؤه في حال لقائِه ربَّه بوصفِ الصَّحْوِ، وحَفَظَه حتى رآه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَفَرَءَيْتُمْ الَّلاَتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرَُ وَلَهُ الأُنثَى تِلْكَ إِذاَ قِسْمَةٌ ضِيزَى‏}‏‏.‏

هذه أصنامٌ كانت العرب تعبدها؛ فاللات صنمٌ لثقيف، والعُزَّى شجرةٌ لغطفان، ومناه صخرة لهذيل وخزاعة‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ أَخْبِرونا *** هل لهذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله من القدرة أن تفعل بعائذٍ بها ما فَعَلْنا نحن لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم من الرُّتب والتخصيص‏؟‏‏.‏

ثم وبَّخَهم فقال‏:‏ أرأيتم كيف تختارون لأنفسكم البنين وتنسبون البنات إلى الله‏؟‏ تلك إذاً قسمةٌ ناقصةٌ‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 28‏]‏

‏{‏إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ‏(‏23‏)‏ أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى ‏(‏24‏)‏ فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى ‏(‏25‏)‏ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ‏(‏26‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى ‏(‏27‏)‏ وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى‏}‏‏.‏

أنتم ابتدعتُم هذه الاسماءَ من غير أنْ يكونَ اللَّهُ أَمَركم بهذا، أو أذِن لكم به‏.‏

فأنتم تتبعون الظنَّ، ‏{‏وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهمُ الْهُدَى‏}‏‏:‏ فأعرضوا عنه، وكما أنَّ ظنَّ الكفار أوْجبَ لهم الجهلَ والحَيْرةَ والحُكْمَ بالخطأ- فكذلك في هذه الطريقة‏:‏ مَنْ عَرَّجَ على أوصاف الظنِّ لا يَحْظَى بشيءٍ من الحقيقة؛ فليس في هذا الحديث إلا القطعُ والتحقُّق، فنهارُهم قد مَتَعَ، وشمسُهم قد طلعت، وعلومُهم أكثرها صارت ضرورية‏.‏

أمَّا الظنُّ الجميلُ بالله فليس من هذا الباب، والتباسُ عاقبةَ الرجلِ عليه ليس أيضاً من هذه الجملة ذات الظن المعلول في الله، وفي صفاته وأحكامه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَمْ للإِنسَانِ مَا تَمَنَّى‏}‏‏.‏

أي ليس للإِنسان ما يتمنَّاه؛ فإنَّه يتمنى طولَ الحياةِ والرفاهيةَ وخِصْبَ العَيْشِ *** وما لا نهاية له، ولكنَّ أحداً لا يبلغ ذلك بتمامه‏.‏

ويقال‏:‏ ما يتمنَّاه الإنسانُ أنْ يرتفعَ مرادُه واجباً في كل شيء- وأَن يَرتْفعَ مرادُ عَبْدٍ واجباً في كل شيءٍ ليس من صفات الخَلْقِ بل هو الله، الذي له ما يشاء‏:‏

‏{‏فَلِلَّهِ الأَخِرَةُ وَالأُولَى‏}‏‏.‏

له الآخرةُ والأُولى خَلْقاً ومِلْكاً، فهو المَلِكُ المالك صاحبُ المُلْكِ التام‏.‏ فأمَّا المخلوقُ فالنقصُ لازِمٌ للكُلِّ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَكَم مِّن مَّلَكٍ في السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَى‏}‏‏.‏

وهذا ردٌّ عليهم حيث قالوا‏:‏ إنَّ الملائكةَ شفعاؤنا عند الله‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْملائِكَةَ تَسْمِيةَ الأُنثَى وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبعُُِونَ إلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً‏}‏‏.‏

هذه التَّسْمِيةُ من عندهم، وهم لا يتبعون فيها علماً أو تحقيقاً *** بل ظَنًّا- والظنُّ لا يفيد شيئاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 32‏]‏

‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏29‏)‏ ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ‏(‏30‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ‏(‏31‏)‏ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ‏(‏32‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ العِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى‏}‏‏.‏

أي أَعْرِض عمَّن أَعرض عن القرآنِ والإيمان به وتدَبُّرِ معانيه، ولم يُرِدْ إِلا الحياةَ الدنيا‏.‏ ذلك مبلغهم من العلم؛ وإنما رضوا بالدنيا لأنهم لم يعلموا حديث الآخرة، وإِنَّ ربَّك عليمٌ بالضالِّ، عليمٌ بالمهتدِي *** وهو يجازي كلاًّ بما يستحق‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَائُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى‏}‏‏.‏

يجزي الذين أساؤوا بالعقوبات، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَجْتَيِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ‏}‏‏.‏

الذنوبُ كلُّها كبائر لأنها مخالِفةٌ لأمر الله، ولكن بعضَها أكبرُ من بعضٍ‏.‏ ولا شيءَ أعظمُ من الشِّرك‏.‏ ‏{‏وَالْفَوَاحِشَ‏}‏ المعاصي‏.‏

‏{‏إِلاَّ اللَّمَمَ‏}‏‏:‏ تكلموا فيه، وقالوا‏:‏ إنه استثناء منقطع، واللمم ليس بإثم ولا من جملة الفواحش‏.‏

ويقال‏:‏ اللمم من جملة الفواحش ولكن فيها اشتباهاً- فأخبر أنه يغفرها‏.‏

ويقال‏:‏ اللمم هو أن يأتيَ المرءُ ذلك ثم يُقْلِعَ عنه بالتوبة‏.‏

وقال لعضُ السَّلَفِ‏:‏ هو الوقعة من الزِّنا تحصل مرةً ثم لا يعود إليها، وكذلك شرب الخمر، والسرقة *** وغير ذلك، ثم لا يعود إليها‏.‏

ويقال‏:‏ هو أن يهم بالزَّلَّة ثم لا يفعلها‏.‏

ويقال‏:‏ هو النَّظَر‏.‏ ويقال‏:‏ ما لا حدَّ عليه من المعاصي، وتُكَفِّر عنه الصلوات‏.‏ ‏(‏والأصحُّ أنه استثناء منقطع وأن اللمم ليس من جملة المعاصي‏)‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ وَاسَعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَأَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى‏}‏‏.‏

‏{‏إِذْ أَنَشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ‏}‏‏:‏ يغني خَلْقَ آدم‏.‏

ويقال‏:‏ تزكيةُ النَّفْسِ من علامات كَوْنَ المرءِ محجوباً عن الله؛ لأنَّ المجذوب إلى الغاية والمستغرق في شهود ربِّه لا يُزكِّي نفسه‏.‏

‏{‏هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى‏}‏‏:‏ لأنه أعلمُ بكم منكم‏.‏

ويقال‏:‏ مَنْ اعتقد أنَّ على البسيطة أحداً شرٌّ منه فهو مُتَكَبِّرٌ‏.‏

ويقال‏:‏ المسلمُ يجب أنْ يكونَ بحيث يرى كلَّ مسلمٍ خيراً منه‏:‏ فإن رأى شيخاً، قال‏:‏ هو أكثرُ منِّي طاعةً وهو أفضلُ منِّي، وإنْ رأى شاباً قال‏:‏ هو أفضلُ مني لأنه أقلُّ منِّي ذَنْباً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 42‏]‏

‏{‏أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ‏(‏33‏)‏ وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى ‏(‏34‏)‏ أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى ‏(‏35‏)‏ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ‏(‏36‏)‏ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ‏(‏37‏)‏ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ‏(‏38‏)‏ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ‏(‏39‏)‏ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ‏(‏40‏)‏ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى ‏(‏41‏)‏ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ‏(‏42‏)‏‏}‏

أعرض عن الحقِّ، وتصدَّق بالقليل‏.‏ ‏{‏وَكْدَى‏}‏ أي قطع عطاءَه‏.‏

‏{‏أَعِندُهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فهُوَ يَرَى‏}‏‏.‏

‏{‏فَهُوَ يَرَى‏}‏‏:‏ فهو يعلم صِحَّةً ذلك‏.‏ يقال‏:‏ هو المنافق الذي يُعين على الجهاد قليلاً ثم يقطع ذلك‏:‏

‏{‏أَعِندُهُ عِلْمُ الْغَيْبِ‏}‏‏:‏ فهو يرى حاله في الآخرة‏؟‏

‏{‏أَمْ لَمْ يُنَبَأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى وَِإبْرَاهِيمَ الَّذَِى وَفَّى‏}‏‏.‏

أم لم يُنَبَأْ هذا الكافرُ بما في صحف موسى، وصحف إبارهيم الذي وفّى؛ أي أتمَّ ما طُولِبَ به في نَفْسِه ومالِه ووَلدِه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَلاََّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ للإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَآءَ الأَوْفَى‏}‏‏.‏

الناسُ في سَعْيِهم مختلِفون؛ فَمَنْ كان سعيُهُ في طلب الدنيا خَسِرت صفقتُه، ومن كان سعيُهُ في طَلَبِ الجنة ربحت صفقته، ومن كان سعيُهُ في رياضة نَفْسِه وصل إلى رضوان الله، ومَنْ كان سعيُه في الإرادة شَكَرَ اللَّهُ سَعْيَه ثم هداه إلى نَفْسِه‏.‏

وأمَّا المُذْنِبُ- فإِذا كان سعيُهُ في طلب غفرانه، ونَدَمِ القلبِ على ما اسودَّ من ديوانه، فسوف يجد من الله الثوابَ والقربة والكرامة والزلفة‏.‏

ومَنْ كان سَعْيُه في عَدِّ أنفاسِه مع الله؛ لا يُعَرِّج على تقصير، ولا يُفَرِّط في مأمور فسيرى جزاءَ سَعْيهِ مشكوراً في الدنيا والآخرة، ثم يشكره بأَنْ يُخاطِبَه في ذلك المعنى بإِسماعهِ كلامَه من غير واسطة‏:‏ عبدي، سَعْيُك مشكور، عبدي، ذَنْبُكَ مغفور‏.‏

‏{‏ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى‏}‏‏:‏ هو الجزاءُ الأكبرُ والأَجَلُّ، جزاءٌ غير مقطوعٍ ولا ممنوعٍ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتُهَى‏}‏‏.‏

إليه المرجعُ والمصيرُ، فابتداءُ الأشياءِ من الله خَلْقاً‏.‏ وانتهاءُ الأشياءِ إلى الله مصيراً‏.‏

ويقال‏:‏ إذا انتهى الكلامُ إلى اللَّهِ تعالى فاسْكُتُوا‏.‏

ويقال‏:‏ إذا وَصَلَ العبدُ إلى معرفةِ الله فليس بعدَه شيءٌ إلا ألطافاً من مالٍ أو منالٍ أو تحقيق آمالٍ أو أحولٍ *** يُجْريها على مرادِه- وهي حظوظٌ للعباد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 48‏]‏

‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ‏(‏43‏)‏ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ‏(‏44‏)‏ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏45‏)‏ مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ‏(‏46‏)‏ وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى ‏(‏47‏)‏ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ‏(‏48‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى‏}‏‏.‏

أراد به الضحك والبكاء المتعارَف عليهما بين الناس؛ فهو الذي يُجْريه ويَخْلُقُه‏.‏

ويقال‏:‏ أضحك الأرضَ بالنباتِ، وأبكى السماءَ بالمطرِ‏.‏

ويقال‏:‏ أضحكَ أهلَ الجنة بالجنة، وأبكى أهل النار بالنار‏.‏

ويقال‏:‏ أضحك المؤمنَ في الآخرة وأبكاه في الدنيا، وأضحك الكافرَ في الدنيا وأبكاه في الآخرة‏.‏

ويقال‏:‏ أضحكهم في الظاهر، وأبكاهم بقلوبهم‏.‏

ويقال‏:‏ أضحك المؤمنَ في الآخرة بغفرانه، وأبكى الكافرَ بهوانه‏.‏

ويقال‏:‏ أضحك قلوبَ العارِفِين بالرضا، وأبكى عيونهم بخوف الفراق‏.‏

ويقال‏:‏ أضحكهم برحمته، وأبكى الأعداءَ بسخطه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وََأنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا‏}‏‏.‏

أماته في الدنيا، وأحياه في القبر؛ فالقبر إما للراحة وإِما للإحساس بالعقوبة‏.‏

ويقال‏:‏ أماته في الدنيا، وأحياه في الحشر‏.‏

ويقال‏:‏ أمات نفوسَ الزاهدين بالمجاهدة، وأحيا قلوبَ العارفين بالمشاهدة‏.‏

ويقال‏:‏ أماتها بالهيبة، وأحياها بالأُنْس‏.‏

ويقال‏:‏ بالاستتار، والتجلِّي‏.‏

ويقال‏:‏ بالإعراض عنه، والإقبال عليه‏.‏

ويقال‏:‏ بالطاعة، والمعصية‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى‏}‏‏.‏

سماهما زوجين لازدواجهما عند خلْقهما من النُّطْفة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى‏}‏‏.‏

‏{‏أَغْنَى‏}‏‏:‏ أعطى الغِنَى، ‏{‏وََأقْنَى‏}‏‏:‏ أكثر القنية أي المال‏:‏ وقيل ‏{‏وَأَقْنَى‏}‏‏:‏ أي أحوجه إلى المال- فعلى هذا يكون المعنى‏:‏ أنه خَلَقَ الغِنَى والفقر‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏وََأقْنَى‏}‏ أي أرضاه بما أعطاه‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏أَغْنَى‏}‏ أي أقنع، ‏{‏وَأَقْنَى‏}‏‏:‏ أي أرضى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 62‏]‏

‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ‏(‏49‏)‏ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى ‏(‏50‏)‏ وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى ‏(‏51‏)‏ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ‏(‏52‏)‏ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ‏(‏53‏)‏ فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ‏(‏54‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ‏(‏55‏)‏ هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى ‏(‏56‏)‏ أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ ‏(‏57‏)‏ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ‏(‏58‏)‏ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ‏(‏59‏)‏ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ ‏(‏60‏)‏ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ‏(‏61‏)‏ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى‏}‏‏.‏

‏(‏الشِّعرى‏:‏ كوكبٌ يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر، وكانت خزاعة تعبدها فأَعْلَمَ اللَّهُ أنه ربُّ معبودهم هذا‏)‏‏.‏

‏{‏وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى وَثَمُودَاْ فَمَآ أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى‏}‏‏.‏

عاد الأولى هم قوم هود، وعاد الأخرى هي إرَم ذات العماد، كما أهلك ثموداً فما أبقى منهم أحداً‏.‏ وأهْلَكَ مِنْ قَبْلِهم قومَ نوحٍ الذين كانوا أظلمَ من غيرهم وأغوى لِطُولِ أعمارهم، وقوة أجسادهم‏.‏

‏{‏وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى‏}‏‏.‏

أي المخسوف بها، وهي قرى قوم لوط، قَلَبَها جبريل عليهم، فهي مقلوبة معكوسة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَهْوَى‏}‏ أي‏:‏ أسقطها اللَّهُ إلى الأرض بعدما اقتلعها من اصلها، ثم عَكَسَها وألقاها في الأرض، فغشاها ما غشاها من العذاب‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبَِّكَ تَتَمَارَى‏}‏‏.‏

فبأي آلاء ربك- أيها الإنسان- تتشكك‏؟‏ وقد ذكر هذا بعد ما عدَّ إنعامَه عليهم وإحسانَه إليهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الأُولَى‏}‏‏.‏

هو محمد صلى الله عليه وسلم، أرسلناه نذيراً كما أرسلنا الرُّسُلَ الآخرين‏.‏

‏{‏أَزِفَتِ الأَزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ‏}‏‏.‏

أي قَرُبَت القيامة‏.‏ ولا يقدر أحدٌ على إقامتها إلا الله، وإذا أقامها فلا يقدر أحدِّ على ردِّها وكَشْفِها إلا الله‏.‏

ويقال‏:‏ إذا قامت قيامة هذه الطائفة- اليومَ- فليس لها كاشفٌ غيره‏.‏ وقيامتُهم تقوم في اليوم غيرَ مَرَّةٍ‏.‏ تقوم بالهَجْرِ والنَّوى والفراق‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ‏}‏‏.‏

أفمن هذا القرآن تعجبون، وتكونون في شكِّ، وتستهزئون‏؟‏

‏{‏وَأَنتُمْ سَامِدُونَ‏}‏‏:‏ أي لاهون‏.‏‏.‏‏.‏

‏{‏فَاسْجُدُواْ لِلَّهِ وَاعْبُدُواْ‏}‏‏:‏ فاسجدوا لله ولا تعبدوا سواه‏.‏

سورة القمر

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ‏(‏1‏)‏‏}‏

أجمع أهلُ التفسير على أنَّ القمرَ قد انشقَّ على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن مسعود‏:‏ «رأيت حراء بين فلقتي القمر» ولم يوجد لابن مسعود مخالف في ذلك؛ فقد روي أيضاً عن أنس وابن عمر وحذيفة وابن عباس وجبير بن مطعم‏.‏‏.‏ كلهم رووا هذا الخبر‏.‏

وفيه إعجازٌ من وجهين‏:‏ أحدهما رؤية مَنْ رأى ذلك، والثاني خفاء مثل ذلك على مَنْ لم يَرَه؛ لأنه لا ينكتم مثله في العادة فإذا خفي كان نقض العادة‏.‏

وأهل مكة رأوا ذلك، وقالوا‏:‏ إنَّ محمداً قد سحر القمر‏.‏

ومعنى ‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعِةُ‏}‏‏:‏ أي ما بقي من الزمانِ إلى القيامةِ إلا قليلٌ بالإضافةِ إلى ما مضى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 5‏]‏

‏{‏وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ‏(‏2‏)‏ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ‏(‏3‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ‏(‏4‏)‏ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِن يَرَوْا ءِايَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌ‏}‏‏.‏

يعني أن أهل مكة إذا رأوا آية من الآيات أعرضوا عن النظر فيها، ولو نظروا لحصل لهم العلمُ واجباً‏.‏

‏{‏سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ‏}‏‏:‏ أي دائمٌ قويٌّ شديد *** ويقال إنهم قالوا‏:‏ هذا ذاهب لا تبقى مدته فاستمر‏:‏ أي ذهب‏.‏

‏{‏وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُمْ‏}‏‏:‏ التكذيب واتباع الهوى قريبان؛ فإِذا حَصَل اتباعُ الهوى فمِنْ شُؤْمِه يحصل التكذيب؛ لأنَّ اللَّهَ يُلَبِّس على قلب صاحبه حتى لا يستبصر الرشد‏.‏

أما اتباع الرضا فمقرونٌ بالتصديق؛ لأنَّ اللَّهَ ببركاتِ اتباع الحقِّ يفتح عينَ البصيرة فيحصل التصديقِ‏.‏

وكلُّ امرئ جَرَتْ له القِسْمةُ والتقدير فلا محالةَ‏.‏ يستقر له حصولُ ما قُسِمَ وقدِّر له‏.‏

‏{‏وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ‏}‏‏:‏ يستقر عملُ المؤمنِ فتُوجَبُ له الجنة، ويستقر عملُ الكافرِ فَيُجَّازَى‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الأَنبآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةُ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ‏}‏‏.‏

جاءهم من أخبارِ الأنبياءِ والأممِ الذين مِنْ قَبْلهِم والأزمنةِ الماضية ما يجب أَنْ يحصلَ به الارتداعُ، ولكنَّ الحقَّ- سبحانه- أَسْبَلَ على بصائرهم سُجُوف الجهلِ فَعَموا عن مواضع الرشد‏.‏

‏{‏حِكْمَةُ بَالِغَةٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏:‏ بدل من ‏(‏ما‏)‏ فيما سبق‏:‏ ‏(‏ما فيه مزدجر‏)‏‏.‏

والحكمةالبالغة هي الصحيحة الظاهرة الواضحة لمن تفكّر فيها‏.‏

‏{‏فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ‏}‏‏:‏ وأي شيء يغني إنذارُ النذيرِ وقد سَبَقَ التقديرُ لهم بالشقاء‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 13‏]‏

‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ ‏(‏6‏)‏ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ‏(‏7‏)‏ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ‏(‏8‏)‏ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ‏(‏9‏)‏ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ‏(‏10‏)‏ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ‏(‏11‏)‏ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ‏(‏12‏)‏ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَئ نُّكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ‏}‏‏.‏

‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ‏}‏‏:‏ ها هنا تمام الكلام- أي فأعرِضْ عنهم، وهذا قبل الأمر بالقتال‏.‏ ثم استأنف الكلامَ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ والجواب‏:‏ ‏{‏يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ‏}‏- أراد به يوم القيامة‏.‏

ومعنى ‏{‏نُّكُرٍ‏}‏‏:‏ أي شيءٌ ينكرونه ‏(‏بِهَوْله وفظاعته‏)‏ وهو يوم البعث والحشر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏خُشَّعاً‏}‏ منصوب على الحال، أي يخرجون من الأجداث- وهي القبور- خاشعي الأبصار‏.‏

‏{‏ *** كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ‏}‏‏.‏

كأنهم كالجراد لكثرتهم وتفَرقهم، ‏{‏مُّهْطِعِينَ‏}‏‏:‏ أي مُديمي النظر إلى الداعي- وهو إسْرافيل‏.‏

‏{‏يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ‏}‏‏:‏ لتوالي الشدائد التي فيه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَآءٍ مُّنهْمَرٍ‏}‏‏.‏

كذب قوم نوح نبيَّهم، وقالوا‏:‏ إنه مجنون، وزجروه وشتموه‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏وَازْدُجِرَ‏}‏‏:‏ أي استطار عَقْلهُ، أي قومُ نوحٍ قالوا له ذلك‏.‏

فدعا ربَّه فقال‏:‏ إِني مغلوب؛ أي بتسلُّطِ قومي عليَّ؛ فلم يكن مغلوباً بالحُجَّة لأنَّ الحُجَّةَ كانت عليهم، فقال نوح لله‏:‏ اللهمَّ فانتَصِرْ منهم أي انْتَقِمْ‏.‏

ففتحنا أبواب السماء بماءٍ مُنْصَبٍّ، وشَقَقْنَا عيوناً بالماء، فالتقي ماء السماءِ وماءُ الأرضِ على أمرٍ قد قُدِّرَ في اللوح المحفوظ، وَقُدِرَ عليه بإهلاكهم‏!‏

وفي التفاسير‏:‏ أن الماء الذي نَبَعَ من الأرضِ نَضَبَ‏.‏ والماء الذي نزل من السماء هو البخارُ اليومَ‏.‏

‏{‏وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ‏}‏‏.‏

وحملنا نوحاً على ‏{‏ذَاتِ أَلْوَاحٍ‏}‏ أي سفينة، و‏{‏وَدُسُرٍ‏}‏ يعني المسامير وهي جمع دسار أي مسمار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 20‏]‏

‏{‏تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ ‏(‏14‏)‏ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏15‏)‏ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏16‏)‏ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏17‏)‏ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏18‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ‏(‏19‏)‏ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ‏}‏‏.‏

‏{‏بَأعْيُنِنَا‏}‏ أي بمرأَى مِنَّا‏.‏ وقيل‏:‏ تجري بأوليائنا‏.‏

ويقال‏:‏ بإعين ملائكتنا الذين وكلناهم لحفظهِم‏.‏

ويقال‏:‏ بأعين الماء الذي أنبعتاه من أوجه الأرض‏.‏

‏{‏جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ‏}‏‏:‏ أي الذين كفروا بنوح‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَقَد تَّرَكْنَاهَآ ءَايَةً فَهَلْ مِن مُّذَّكَرِ‏}‏‏.‏

جعلنا أَمْرَ السفينةِ علامةً بَيِّنَةً لِمَنْ يعتبر بها‏.‏

‏{‏فَهَلْ مِن مُُّذَّكِرٍ‏}‏‏:‏ فهل منكم من يعتبر‏؟‏‏.‏ أمَرَهم بالاعتبار بها‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ‏}‏‏.‏

قالها على جهةالتعظيم لأمرِه‏.‏

وقد ذَكَرَ قصة نوخٍ هنا عل أفصحِ بيانٍ وأقصرِ كلام وَأَتَمِّ معنًى‏.‏

وكان نوحٌ- عليه السلام- أطول الأنبياء عمراً، وَأشَدَّهم للبلاءِ مقاساةً‏.‏

ثم إن اللَّهَ- سبحانه- لما نَجَّى نوحاً متَّعه بعد هلاك قومه ومتع أولادَه، فكلُّ مَنْ على وجه الأرض من أولا د نوح عليه السلام‏.‏

وفي هذا قوةٌ لرجاء أهل الدين، وإذا لقوا في دين الله محنةً؛ فإنَّ الله يُهلِكُ- عن قريب- عَدوَّهم، ويُمكِّنُهم من ديارهم وبلادهم، ويورثهم ما كان إليهم‏.‏

وكذلك كانت قصة موسى عليه السلام مع فرعون وقومه، وسنةُ اللَّهِ في جميع أهل الضلال أن يُعِزَّ أولياءَه بعد أن يزهق أعداءَه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ‏}‏‏.‏

يَسَّرنا قراءَتَه على ألسنةِ الناس، ويسَّرنا عِلْمه على قلوبِ قوم، ويسَّرنا فَهْمَه على قلوب قوم، ويَسَّرْنا حِفْظَه على قلوبِ قومٍ، وكلُّهم أهلُ القرآن، وكلُّهم أهلُ القرآن، وكلُّهم أهل الله وخاصته‏.‏

ويقال‏:‏ كاشَفَ الأرواحَ من قوم- بالقرآن- قبل إدخالها في الأجساد‏.‏

‏{‏فَهَلْ مِن مُّدَّكَرٍ‏}‏ لهذا العهد الذي جرى لنا معه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ إِِنَّآ أَرْسْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى يَوْمٍ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ‏}‏‏.‏

كَذَّبوا هوداً، فأرسلنا عليهم ‏{‏رِيحاً صَرْصَراً‏}‏ أي‏:‏ باردةً شديدة الهُبوب، يُسْمَعُ لها صوت‏.‏

‏{‏فِى يَوْمِ نَخْسٍ مُّسْتَمِرٍّ‏}‏ أي‏:‏ في يوم شؤم استمرَّ فيه العذابُ بهم، ودام ذلك فيهم ثمانيةَ أيام وسَبْعَ ليالٍ، وقيل‏:‏ دائم الشؤم تنزع رياحُه الناسَ عن حُفَرِهم التي حفروها‏.‏ حتى صاروا كأنهم أسافلُ نخلٍ مُنْقَطِع‏.‏ وقيل‏:‏ كانت الريح تقتلع رؤوسهم عن مناكبهم ثم تُلْقي بهم كأنهم أصول نخلٍ قطت رؤوسُها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏22‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ‏(‏23‏)‏ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ‏}‏‏.‏

هَوَّنا قراءَتَه وحِفْظَه؛ فليس كتابٌ من كُتُبِ الله تعالى يُقْرَأُ ظهراً إلاََّ القرآن‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُذُّرِ فَقَالُوآ أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِى ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ‏}‏‏.‏

هم قوم صالح‏.‏ وقد مضى القولُ فيه، وما كان من عقرهم للناقة‏.‏‏.‏ إلى أن أرسل الله عليهم صيحةً واحدةً أوجبت هذا الهلاك، فَصيَّرَهم كالهشيم، وهو اليابس من النبات، ‏{‏الْمُحْتَظِرِ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ المجعول في الحظيرة، أو الحاصل في الحظيرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 35‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ‏(‏33‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ‏(‏34‏)‏ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

فأرسلنا عليهم ‏{‏حَاصِباً‏}‏‏:‏ أي‏:‏ حجارةً رُمُوا بها‏.‏

‏{‏كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ جعلنا إنجاءَهم في إِهلاك أعدائهم‏.‏

وهكذا نجزي من شكر؛ فمثل هذا نعامِلُ به مَن شَكَرَ نعمتنا‏.‏

والشُّكْرُ على نِعَم الدفع أتمُّ من الشكر على نِعَم النفع- ولا يَعْرِفُ ذلك إلا كلُّ مُوَفَّق كَيِّس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏37‏)‏‏}‏

جاء جبريلُ ومَسَحَ بجناحه عَلى وجوههم فَعمُوا، ولم يهتدوا للخروج- وكذلك أجرى سُنَّتَه في أوليائه أنْ يَطْمِسَ على قلوبِ أعدائهم حتى يلبس عليهم كيف يؤذون أولياءَه ثم يُخَلِّصُهم من كيدهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

أخبر أنه يفعل هذا بأعداء الرسول صلىلله عليه وسلم، وحقٌّق ذلك يوم بَدر، فصار ذلك معجزاته صلوات الله عليه وسلامه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

سَحْبُهم على الوجوهِ أمارةٌ لإذْلالهم، ولو كان ذلك مرةً واحدةً لكانت عظيمة- فيكيف وهو التأبيد والتخليد‏؟‏‏!‏

وكما أنََّ أمارةَ الذُلِّ تظهر على وجوههم فعلامةُ إعزازِ المؤمنين وإكرامهم تظهر على وجوههم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وُجُوةٌ يَؤمَئِذٍ نَّاَضِرَةٌ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 24‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 55‏]‏

‏{‏إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ‏(‏49‏)‏ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ‏(‏50‏)‏ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏51‏)‏ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ‏(‏52‏)‏ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ‏(‏53‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ‏(‏54‏)‏ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ‏(‏55‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُلَّ شَئ خَلَقْنَاهُ بِقَدرٍ‏}‏‏.‏

أي بِقَدَرٍ مكتوب في اللوح المحفوظ‏.‏

ويقال‏:‏ خلقناه بقدر ما عَلِمْنا وأردْنا وأخبرْنا‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحِ بِالْبَصَرِ‏}‏‏.‏

أي إذا أردنا خَلْقَ شيءٍ لا يتعسَّرُ ولا يتعَذَّرُ علينا، نقول له‏:‏ كُنْ- فيكون بقدرتنا‏.‏ ولا يقتضي هذا استئناف قولٍ في ذلك الوقت ولكن استحقاق أن يقال لقوله القدم أن يكون أمراً لذلك المكون إنما يَحصل في ذلك الوقت‏.‏

‏{‏كَلَمْحِ بِالْصَبرِ‏}‏‏:‏ أي كما ان هذا القَدْرَ عندكم أي قَدْرَ ما يلمح أحدُكم ببصره لا تلحقكم به مشقةٌ- كذلك عندنا‏:‏ إذا أردنا نخلق شيئاً- قلّ أو كَثُرَ، صَغُرَ أو كَبُرَ لا تلحقنا فيه مشقة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ‏}‏‏.‏

أي أهلكنا القرونَ التي كانت قبلكم فكلُّهم أمثالكم من بني آدم‏.‏‏.‏‏.‏

‏{‏وَكُلُّ شَئٍ فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ‏}‏‏.‏

في اللوح المحفوظ مكتوبٌ قبل أن يعمله‏.‏ وفي صحيفة الملائكة مكتوب‏.‏ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها‏.‏‏.‏

‏{‏وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ‏}‏‏.‏

كلُّ صغيرٍ من الخَلْق، وكلُّ كبيرٍ من الخَلْقِ- تخترمه المنيَّةُ‏.‏

ويقال‏:‏ كلُّ صغيرٍ من الأعمال وكبيرٍ مكتوبٌ في اللوح المحفوظ، وفي ديوان الملائكة‏.‏

وتعريف الناس عما يكتبه الملائكة هوعلى جهة التخويف؛ لئلا يتجاسر العبدُ على الزَّلَّةِ إذا عرف المحاسبة عليها والمطالبة بها‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُتَقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِى مَقْعَدٍ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر‏}‏

لهم بساتين وأنهار، والجمعُ إذا قوبل بالجمع فالآحادُ تُقابَلُ بالآحاد‏.‏

فظاهرُ هذا الخطاب يقتضي أن يكون لكل واحدٍ من المتقين جنةٌ ونَهْرٌ‏.‏

‏{‏فِى مَقْعَدٍ صِدْقٍ‏}‏‏:‏ أي في مجلس صِدْقٍ‏.‏

‏{‏عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ‏}‏‏:‏ أراد به عِنْديََّةَ القْرْبة والزلفة‏.‏

ويقال‏:‏ مقعد الصدق أي مكان الصدق، والصادق في عبادته مَنْ لا يتعبَّدُ على ملاحظة الأطماع ومطالعة الأعواض‏.‏

ويقال‏:‏ مَنْ طلب الأعواض هَتَكَتْه الأطماع، ومَنْ صَدَقَ في العبوديَّة تحرَّرَ عن المقاصد الدَّنِيَّة‏.‏

ويقال‏:‏ مَنْ اشتغل بالدنيا حَجَبَتْه الدنيا عن الآخرة، ومَنْ أَسَرَه نعيمُ الجنة حُجِبَ عن القيامة بالحقيقة، ومَنْ قام بالحقيقة شُغِلَ عن الكوْن بجملته‏.‏

سورة الرحمن

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏الرَّحْمَنُ ‏(‏1‏)‏ عَلَّمَ الْقُرْآَنَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

أي الرحمن الذي عَرَفَه الموحِّدون وجَحَدَه الكافرون هو الذي علَّم القرآن‏.‏ ويقال‏:‏ الرحمن الذي رحمهم، وعن الشِّرك عَصَمَهم، وبالإيمان أكرمهم، وكلمةَ التقوى ألزمهم- هو الذي عرَّفهم بالقرآن وعلَّمهم‏.‏

ويقال‏:‏ انفرد الحقُّ عرَّفهم بالقرآن لعِباده‏.‏

ويقال‏:‏ أجرى اللَّهُ سُنَّتَه أنه إذا أعطى نبينا صلى الله عليه وسلم شيئاً أَشْرَكَ أُمتَّه فيه على ما يليق بصفاتهم؛ فلمَّا قال له ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 113‏]‏‏.‏

قال لأمته‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءَانَ‏}‏‏.‏

ويقال‏:‏ علَّم الله آدمَ الأسماءَ كلَّها ثم أمره بِعَرْضها على الملائكة وذكر آدمُ ذلك لهم- قال تعالى‏:‏ ‏{‏أنبئني بأسماء هؤلاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 33‏]‏ يا آدم، وعلَّمَ ‏(‏نبيُّنا صلى عليه وسلم‏)‏ المسلمين القرآنَ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، والمُصَلِّي مُناجٍ ربه» قال لآدم‏:‏ أُذْكُرْ ما علَّمْتُكَ للملائكة‏.‏ وقال لنا‏:‏ ناجِنِي يا عبدي بما عَلَّمْتُك‏.‏ وقد يُلاطَفُ مع أولاد الخَدم بما لا يُلاطَفُ به آباؤهم‏.‏

ويقال‏:‏ لمَّا علَّم آدمَ أسماء المخلوقاتِ قال له‏:‏ أَخْبِرْ الملائكة بذلك، وعلَّمَنَا كلامَه وأسماءَه فقال‏:‏ اقْرأوا عليَّ وخاطِبوا به معي‏.‏

ويقال‏:‏ علَّم الأرواحَ القرآن- قَبْلَ تركيبها في الأجساد بلا واسطة، والصبيانُ إنما يُعَلَّمُونَ القرآن- في حالِ صِغَرِهم- قبل أَنْ عَرَفَتْ أرواحُنا أحداً، أو سَمِعْنا من أحدٍشيئاً‏.‏‏.‏ علَّمَنَا أسماءَه‏.‏

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى *** فصادَفَ قلبي فارغاً فَتَمَكَّنا

ويقال‏:‏ سقياً لأيامٍ مضت- وهو يُعلِّمنا القرآن‏.‏

ويقال‏:‏ برحمته علّمَهم القرآن؛ فبرحمته وصلوا إلى القرآن- لا بقراءة القرآن يَصِلُون إلى رحمته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ‏(‏4‏)‏ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ‏(‏5‏)‏ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ‏}‏‏.‏

‏{‏الإِنْسَانَ‏}‏‏:‏ ها هنا مجَنْسُ الناس؛ عَلَّمَهم البيانَ حتى صاروا مُمَيزَّين- فانفصلوا بالبيان عن جميع الحيوان‏.‏ وعَلَّمَ كُلَّ قومٍ لسانَهم الذي يتكلمون ويتخاطبون به‏.‏

والبيانُ ما به تبينُ المعاني- وشَرْحُه في مسائل الأصول‏.‏

ويقال‏:‏ لمَّا قال أهلُ مكة إنما يُعلِّمه بَشَرٌ ردَّ الله- سبحانه- عليهم وقال‏:‏ بل عَلَّمَه اللَّهُ؛ فالإنسانُ على هذا القول هو محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل هو آدم عليه السلام‏.‏

ويقال‏:‏ البيان الذي خُصَّ به الإنسان ‏(‏عموماً‏)‏ يعرِفُ به كيفيةَ مخاطبةِ الأغيار من الامثال والأشكال‏.‏ وأمَّا أهل الإيمان والمعرفة فبيانُهم هو عِلْمُهم كيفيةَ مخاطبةِ مولاهم- وبيانُ العبيدِ مع الحقِّ مختلفٌ‏:‏ فقومٌ يخاطِبونه بلسانهم، وقومٌ بأنفاسهم، وقوم بدموعهم‏:‏

دموعُ الفتى عمَّا يحسُّ تترجمُ *** وأشواقه تبدين ما هو يكتم

وقومُ بأنينهم وحنينهم‏:‏

قُلْ لي بألسنة التنفُّس كيف أنت وكيف حالك‏؟‏

قوله جلَّ ذكره‏:‏ ‏{‏الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ‏}‏‏.‏

يعني يجري أمرهما على حدٍّ معلومٍ من الحساب في زيادة الليل والنهار، وزيادة القمر ونقصانه، وتُعْرَفُ بجريانهما الشهورُ والأيامُ والسنون والأعوام‏.‏ وكذلك لهما حساب إذا انتهى ذلك الأَجَلُ‏.‏‏.‏ فالشمسُ تُكَوَّرُ والقمرُ يَنْكَدِر‏.‏

وكذلك لشمسِ المعارفِ وأقمارِ العلوم- في طلوعها في أوج القلوبِ والأسرار- في حكمة الله حسابٌ معلومٌ، يُجْريهَا على ما سَبَق به الحُكْمُ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ‏}‏‏.‏

ويقال‏:‏ النجم من الأشجار‏:‏ ما ليس له ساق، والشجر‏:‏ ما له ساق‏.‏

ويقال‏:‏ النجومُ الطالعةُ والأشجارُ الثابتةُ ‏{‏يَسْجُدَانِ‏}‏ سجودَ دلالة على إثبات الصانع بنعت استحقاقه للجلال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 12‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ‏(‏7‏)‏ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ‏(‏8‏)‏ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ‏(‏9‏)‏ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ ‏(‏10‏)‏ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ ‏(‏11‏)‏ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ‏}‏‏.‏

سَمَكَ السماءَ وأعلاها، وعلى وصفِ الإتقانِ والإحكام بناها، والنجومَ فيها أجراها، وبثَّ فيه كواكبَها، وحفظ عن الاختلالِ مناكِبهَا، وأثبت على ما شاءَ مشارقَها ومغاربَهَا *** وَخَلَقَ الميزانَ بين الناس ليعتبروا الإنصافَ في المعالملات بينهم‏.‏

ويقال‏:‏ الميزانُ العَدْلُ‏.‏

‏{‏أَلاَّ تَطْغُوْا فِى الْمِيزَانِ‏}‏‏.‏

احفظوا العَدْل في جميع الأمور؛ في حقوق الآدميين وفي حقوق الله، فيعتبرُ العدلُ، وتَرْكُ الحَيْفِ ومجاوزةُ الحدِّ في كل شيءٍ؛ ففي الأعمال يُعْتَبَرُ الإخلاصُ، وفي الأحوال الصدقُ، وفي الأنفاس الحقائقُ ومساواةُ الظاهرِ والباطنِ وتَرْكُ المداهنةِ والخداعِ والمكرِ ودقائق الشِّرِك وخفايا النفاق وغوامض الجنايات‏.‏

‏{‏وََأقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ‏}‏‏.‏

وأقميوا الوزن بالمكيال الذي تحبون أن تُكَالوا به، وعلى الوصف الذي ترجون أن تنالوا به مطعمكم ومشربكم دون تطفيف‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصفِ وَالرَّيْحَانُ‏}‏‏.‏

خلق الأرض وَجَعلَها مهاداً ومثوى للأنام‏.‏

ويقال‏:‏ وضعها على الماء وبسط أقطارها، وأنبت أشجاها وأزهارها، وأجرى أنهارها وأغطش ليلها وأوضح نهارَها‏.‏

‏{‏فِيهَا فَاكِهَةٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ يعني ألوانُ الفاكهة المختلفة في ألوانها وطعومها وروائحها ونفعها وضررها، وحرارتها وبرودتها‏.‏‏.‏ وغير ذلك من اختلافٍ في حَبِّها وشجرها، وورقها ونَوْرَها‏.‏

‏{‏وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ‏}‏ وأكمام النخل ليفها وما يُغِطَِّها من السَّعف‏.‏

‏{‏وَالْحَبُّ‏}‏‏:‏ حَبُّ الحنطة والشعير والعدس وغير ذلك من الحُبوب‏.‏

‏{‏ذُو الْعَصْفِ‏}‏‏:‏ والعصف ورق الزرع‏.‏

‏{‏وَالرَّيْحَانُ‏}‏ الذي يُشَمُّ‏.‏‏.‏ ويقال‏:‏ «الرزق لأن العرب تقول‏:‏ خرجنا نطلب ريحانَ الله»‏.‏

ذكَّرهم عظِمَ مِنَّتِه عليهم بما خَلَقَ من هذه الأشياء التي ينتفعون بها من مأكولاتٍ ومشمومات وغير ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 18‏]‏

‏{‏فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏13‏)‏ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ‏(‏14‏)‏ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ‏(‏15‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏16‏)‏ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ‏(‏17‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَبِأَىِّ ءَالآَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏‏.‏

فبأي آلاء ربكما تجحدان‏؟‏ والآلاءُ النَّعماء‏.‏

والتثنيةُ في الخطاب للمُكلَّفين من الجِنِّ والإِنس‏.‏

ويقال‏:‏ هي على عادة العرب في قولهم‏:‏ خليليَّ، وقِفَا، وأرحلاها بأغلام، وأرجراها بأغلام‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏خَلَق الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ‏}‏‏.‏

‏{‏الإِنسَانَ‏}‏‏:‏ يعني آدم، والصلصالُ الطينُ اليابس الذي إذا حُرِّكَ صَوَّتَ كالفخار‏.‏ ويقال‏:‏ طين مخلوط بالرمل‏.‏

ويقال‏:‏ مُنَتَّتٌ؛ من قولهم صَلَّ وأَصَلَّ إذا تَغيرَّ‏.‏

‏{‏وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ‏}‏‏.‏

المارج‏:‏ هو اللهب المختلط بواد النار‏.‏

‏{‏فَبِأَىِّ ءَالآَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏‏.‏

يُذَكِّرُ الخَلْقَ من الجن والإنس كما سبق- وكرَّر اللَّهُ سبحانه هذه الآية في غير موضع على جهة التقرير بالنعمةعلى التفصيل، أي نعمةً بعد نعمة‏.‏

ووجُه النعمة في خلق آدم من طين أنه رقاه إلى رتبته بعد أن خلقه من طين‏.‏ ويقال ذَكَّرَ آدمَ نِسبتَه وذكَّرنا نسبَتنا لئلا نْعَجبَ بأحوالنا‏.‏

ويقال عَرَّفَه قدَرَه لئلا يتعدَّى طَوْرَه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏‏.‏

‏{‏الْمَشْرِقَيْنِ‏}‏‏:‏ مشرق الصيف ومشرق الشتاء وكذلك مغربيهما‏.‏

ووجه النعمة في ذلك جريانهما على ترتيب واحدٍ حتى يكمل انتفاع الخَلْقِ بهما‏.‏

ويقال‏:‏ مشرق القلب ومغربه، وشوارق القلب وغوار به إنما هي الأنوار والبصائر التي جرى ذِكْرُ بعضها فيما مضى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ‏(‏19‏)‏ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏بَرْزَخٌ‏}‏ أي حاجز بقدرته لئلا يغلب أحدهما الآخر، أراد به البحر العذب والبحر الملح‏.‏ ويقال‏:‏ لا يبغيان علىلناس ولا يغرقانهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ‏(‏22‏)‏‏}‏

الؤلؤ‏:‏ كبار الدُرِّ، والمَرجان‏:‏ صغار الدُّرِّ‏.‏ ويقال‏:‏ المرجان النَّسْلِ‏.‏

وفي الإشارة‏:‏ خَلَقَ في القلوب بحرين‏:‏ بحر الخوف وبحر الرجاء‏.‏ ويقال القبض والبسط‏.‏ وقيل الهيبة والأُنس‏.‏ يُخرج منها اللؤلؤ والجواهر وهي الأحوال الصافية واللطائف المتوالية‏.‏

ويقال‏:‏ البحران‏:‏ إشارة إلى النفس والقلب، فالقلب هو البحر العَذْب والنفس هي البحر الملح‏.‏‏.‏ فمن بحر القلب كلُّ جوهرٍ ثمين، وكلُّ حالة لطيفة‏.‏‏.‏ ومن النفس كل خلق ذميم‏.‏ والدرُّ من أحد البحرين يخرج، ومن الثاني لا يكون إلا التمساح مما لا قَدْرَ له من سواكن القلب‏.‏ ‏{‏بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ‏}‏‏:‏ يصون الحقُّ هذا عن هذا، فلا يَبْغي هذا على هذا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏الجواري‏}‏‏:‏ واحدها جارية، وهي السفينة‏.‏

‏{‏كَالأَعْلاَمِ‏}‏‏:‏ الجبال‏.‏ له هذه السفن التي أنشئت وخلقت في البحر كَأَنها الجبال العالية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ‏(‏26‏)‏‏}‏

كل من على وجه الأرض في حكم الفناء من حيث الجواز‏.‏ ومن حيث الخبر‏:‏ «ستفنى الدنيا ومن عليها ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام» «والوجه»‏:‏ صفة لله- سبحانه- لم يدلّ عليه العقل قطعاً ودلَّ عليه جَوازاً، وورد الخبر بكونه قطعاً‏.‏

ويقال‏:‏ في بقاءِ الوجه بقاءُ الذات، لأن الصفة لا تقوم بنفسها، ولا محالة شَرطها قيامها بنفسه وذاته‏.‏ وفائدة تخصيص الوجه بالذكر أن ما عداه يُعْرَفُ بالعقل، والوجه لا يُعْلَمُ بالعقل، وإنما يُعْرَفُ بالنقل والأخبار‏.‏ و«يبقى»‏:‏ وفي بقائه‏.‏ سبحانه خَلَفٌ عن كلِّ تلفٍ، وتسليةٌ للمسلمين عمَّ يصيبهم من المصائب، ويفوتهم من المواهب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ‏(‏29‏)‏‏}‏

أهلُ السمواتِ يسألون أبداً المغفرة، وأهل الأرض يسألونه الرزق والمغفرَة، أي لا بُدَّ لأحدٍ منه ‏(‏سبحانه‏)‏‏.‏

وفي السموات والأرض مَنْ لا يسأله‏:‏ وهم مَنْ قيل فيهم‏:‏ «مَنْ شَغَلَه ذِكْري عن مسألتي أعطيته أفضلَ ما أُعطي السائلين»‏.‏

ويقال‏:‏ ليس كلُّ مَنْ في السمواتِ والأرض يسألونه مِمَّا في السموات والأرض ولكن‏:‏

بين المحبين سِرُّ ليس يُغْشيه *** قَوْلٌ ولا قَلَمٌ للخَلْق يحكيه

‏{‏كُلَّ يَومٍ هُوَ فِى شَأْنٍ‏}‏ مِنْ إحياء وإماتة، وقبض قوم وبَسْطِ قومٍ وغير ذلك من فنون أقسام المخلوقات، وما يُجْريه عليها من اختلاف الصفات‏.‏

وفي الآية ردُّ على اليهود حيث قالوا‏:‏ إنَّ اللَّهَ يستريح يومَ السبت لا يفعل شيئاً، فأخبر أنه كل يوم هو في شأن، ولو أُخْلِيَ العالَم لحظةً من حِفْظِه لتلاشى وبَطُلَ‏.‏

‏(‏ومن شأنه أن يغفرَ ذنباً، ويَسْتُرَ عيباً، ويُذْهِبَ كرباً‏)‏، ويُطَيِّبُ قلباً، ويُقْصِي عَبْداً ويُدْنِي عبداً *** إلى غير ذلك من فنون الأفعال‏.‏ وله مع عباده كلَّ ساعَةٍ بِرٌّ جديدٌ، وسِرٌّ بينه وبين عبده- عن البقاء- بعيد‏.‏

ويقال‏:‏ كل يوم هو في شأنِ سَوْقِ المقادير إلى أوقاتها‏.‏

ويقال‏:‏ كل يوم هو في شأنِ إظهارِ مستورٍ وسَتْرِ ظاهرٍ، وإحضارِ غائبٍ وتغييبِ حاضرٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ ‏(‏31‏)‏‏}‏

أي للحساب يومَ القيامة- وليس به اشتغالٌ، تعالى اللَّهُ عن ذلك‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ سنقصد لحسابكم‏.‏